الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة تزكية النساء: قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب وفي غيره من المواضع، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق. .مسألة ثبوت شهادة الشاهد بشاهد ويمين: قال محمد بن رشد: قوله: إن الوكالة لا تثبت بشاهد ويمين يريد وإن كانت الوكالة في المال صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أنه لا يجوز أن يشهد على شاهد ويحلف المدعي مع هذا الشاهد على شهادة ذلك الشاهد؛ لأن المعنى فيهما جميعا سواء، ألا ترى أن سحنون علل في المدونة المنع من ثبوت شهادة الشاهد بشاهد ويمين بأن الشاهد ليس بمال، فكذلك الوكالة ليست بمال، فعلى تعليله لا تثبت بشاهد ويمين كما لا تثبت شهادة الشاهد بشاهد ويمين، وقد قال ابن دحون: إنه يلزم من أجاز شهادة النساء على الوكالة في المال أن يجيز شاهدا ويمينا على الوكالة في المال؛ لأنها تئول إلى المال، وليس ذلك بصحيح، إذ ليس كل موضع يجوز فيه شاهد وامرأتان يجوز فيه شاهد ويمين، وإنما الذي يقول سحنون وابن الماجشون أن كل موضع يجوز فيه شاهد ويمين يجوز فيه شاهد وامرأتان، وهما لا يجيزان شهادة النساء في الوكالة على المال إنما يجيزانها على نفس المال وفيما لا يحضره إلا النساء، وبالله التوفيق. .مسألة يشهد على الرجل وهو من أهل العدل فلا يحكم القاضي بشهادته: قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، ويأتي في نوازل أصبغ فنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله، وبالله التوفيق. .مسألة يشهد عليه أنه وجد به ريح شراب فيقول المتهم للقاضي إنه عدو لي: قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي لسحنون في نوازله بعد هذا وخلاف ما مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم وفي أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك في الموضعين، وبالله التوفيق. .مسألة شهادة امرأتين في جراح العمد: قال محمد بن رشد: هذا الأصل الذي التزمه سحنون وابن الماجشون من أن كل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد تجوز فيه شهادة النساء لم يلتزمه ابن القاسم؛ لأنه لم يجز في هذه الرواية شهادة امرأتين في جراح العمد وهو يجيز القصاص في جراح العمد باليمين مع الشاهد، ويحتمل أن يتأول مذهبه على ذلك؛ لأن قوله اختلف في القصاص من الجراح باليمين مع الشاهد على ما ذكرنا وحصلنا القول فيه في رسم القضاء من سماع أشهب، واختلف قوله أيضا في إجازة شهادة النساء في ذلك أيضا فقال في هذه الرواية: إن شهادتهن لا تجوز في ذلك، ووقع في المجموعة وكتاب ابن سحنون اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، وأن الذي رجع إليه أنها لا تجوز، فيحتمل أن يقال: إنه إنما أجاز شهادة النساء في ذلك على القول بأن اليمين تكون في ذلك مع الشاهد، وأنه إنما منع من إجازة شهادة النساء في ذلك على القول بأن اليمين مع الشاهد لا يكون في ذلك عنده وأما قول ابن الماجشون في المنع من إجازة شهادة النساء في الوصية بالمال للمساكين فهو إغراق على طرد أصله، وليس بثابت في جميع الروايات، والصواب إجازة شهادة النساء في ذلك على أصله؛ لأن اليمين مع الشاهد إنما امتنع من أجل أن صاحب الحق غير معين لا من أجل أن الوصية بالمال لا تستحق باليمين مع الشاهد، فمذهب ابن الماجشون وسحنون أن شهادة النساء لا تجوز إلا فيما يجوز فيه الشاهد واليمين، وأن الشاهد واليمين لا يجوز إلا فيما يجوز فيه شهادة النساء، فكل موضع يجوز فيه هذا يجوز فيه هذا، وكل موضع لا يجوز فيه هذا لا يجوز فيه هذا. وأما على مذهب ابن القاسم المشهور عنه فكل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد يجوز فيه شهادة النساء، وليس كل موضع يجوز فيه شهادة النساء يجوز فيه اليمين مع الشاهد، فما يجوز فيه شهادة النساء أعم وأكثر مما يجوز فيه الشاهد واليمين؛ لأن شهادة النساء تجوز عنده على الوكالة في المال وعلى شهادة الشاهد بالمال، ولا يجوز عنده في شيء من ذلك شاهد ويمين، وإذا قلنا على، مذهبه في هذه الرواية إنه يجيز القصاص باليمين مع الشاهد ولا يجيز شهادة النساء في ذلك فليس أيضا كل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد تجوز فيه شهادة النساء، فعلى هذا من الأشياء ما يجوز فيه هذا وهذا، ومنها ما لا يجوز فيه هذا ولا هذا، ومنها ما يجوز فيه هذا ولا يجوز فيه هذا، وبالله التوفيق. .مسألة لاعب الشطرنج أما المدمن عليها فلا تجوز شهادته: وأما بعد القرن الثالث، فلا يكتفي في عدالة الشاهد بمجرد الإسلام، والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما من أن الشاهد لا تقبل شهادته بمجرد إسلامه حتى تعرف عدالته بكونه على الأحوال المرضية فيه لقول الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فنقول: إن قول عمر بن الخطاب هذا ليس على ظاهره من وجوب قبول شهادة الشاهد بمجرد إسلامه؛ لأنا لو اتبعنا ظاهره لوجب أن نجيز شهادة المسلم وإن علمنا فسقه إذا لم يتهم في ولاء، ولا قرابة ولا علمت منه شهادة زور ولا كان مجلودا في حد، إذ لم يستثن في الحديث إلا هؤلاء الثلاثة، فلما لم يصح ذلك بالإجماع وجب ألا يحمل الحديث على ظاهره، وأن يكون المعنى الذي قصد فيه أن الإسلام شرط في قبول شهادة الشاهد كما أن البلوغ والحرية شرط في قبول شهادته، فمعنى قوله على هذا التأويل أن المسلمين هم الذين تجوز شهادة بعضهم على بعض لا الكفار، ويدل على صحة هذا التأويل قوله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول ويحتمل أن يريد بقوله رضي الله عنه: «المسلمون عدول بعضهم على بعض» الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لأنهم محمولون على العدالة بتعديل الله إياهم حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الآية وبقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فلما كان هذا أحكام الصحابة كان الأمر في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وصدر من خلافة عمر على أن كل مسلم عدل؛ لأنهم كانوا أصحابه، فلما بعد العهد في آخر خلافة عمر وظهرت شهادة الزور فيمن شهد من غير الصحابة فأخبر بذلك ولم يكن ظن به قال: والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول وهذا التأويل أسعد بالظاهر والله أعلم، ومن تعلق بظاهر قول عمر هذا في حمل الشاهد على العدالة حتى تعرف جرحته يلزمه أن يحكم بشهادة الشاهد المجهول الحال دون تعديل في الحدود والقصاص وهو لا يقول بذلك فقد نقض أصله وسقط قوله، وإنما تبتغى العدالة في الشاهد حيث لا يعدم العدول في أغلب الأحوال، وأما حيث يعدمون كشهادة الصبيان فيما يقع فيما بينهم من الجراح والقتل، وكشهادة أهل الرفقة فيما يقع بينهم في السفر ففي ذلك اختلاف وتفصيل ليس هذا موضع ذكره، وأما قول سحنون في صفة الشاهد الذي يجب على الحاكم قبول شهادته ويجب على من عرفه تعديله إنه المعروف بالعدالة وإن قارب بعض الذنوب والأشياء المكروهة، فإنه قول صحيح بين لا اختلاف فيه، وقد اختلف فيما يحد به العدالة من الألفاظ، وأحسن ما رأيت في ذلك أنه المجتنب للكبائر، المتوقي من الصغائر؛ لأن من واقع الكبائر فهو فاسق، ومن لم يبال بالصغائر ولا توقى منها فليس بعدل؛ لأن كل صغيرة إذا انفردت فهي كبيرة إذ قد استوجب عليها عقاب الله إلا أن يغفر له، فلا يقال فيها إنها صغيرة إلا بإضافتها إلى الكبيرة لكنه لما لم تمكن السلامة منها لم يخرج عن العدالة بالوقوع في شيء منها، وأما الأنبياء- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فهم معصومون من الكبائر، وأما الصغائر فقيل: إنهم غير معصومين منها بدليل قول الله عز وجل لنبيه عَلَيْهِ السَّلَامُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] والذي أقول به أنهم معصومون من القصد إلى إتيان الصغائر، كما أنهم معصومون من القصد إلى إتيان الكبائر إلا أنهم يؤاخذون لمكانتهم ومنزلتهم بما ليس بكبائر ولا صغائر في حق من سواهم، وهذا نحو قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» سأل الله عز وجل ألا يؤاخذه فيما ليس في وسعه ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأن يغفر ذلك له، وإن كان الله قد تجاوز لعباده عنه بقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقول سحنون: إن قبول الجوائز من العمال المضروب على أيديهم جرحة تسقط الشهادة والعدالة صحيح، ومعناه عندي إذا قبضوا ذلك من العمال على الجباية الذين إنما جعل عليهم قبض الأموال وتحصيلها دون وضعها في وجوهها ومواضعها بالاجتهاد في ذلك، وأما الأمراء الذين فوض إليهم الخليفة وخليفة الخليفة قبض الأموال وجبايتها وتصريفها باجتهادهم في وجوهها ومواضعها كالحجاج وشبهه من الأمراء على البلاد المفوض جميع الأمور فيها إليهم فقبض الجوائز منهم كقبضها من الخلفاء، فإن صح أخذ ابن عمر جوائز الحجاج فهذا وجهه، وأما القضاة والأجناد والحكام فلهم أن يأخذوا أرزاقهم من العمال المضروب على أيديهم أعني العمال الذين فوض إليهم النظر في ذلك وضرب على أيديهم فيما سوى ذلك من إعطاء مال الله لمن يرونه بوجه اجتهادهم، وقد روي عن مالك أنه قال: لا بأس بجوائز الخلفاء، فأما جوائز العمال ففيها شيء، يريد، والله أعلم، العمال الذين ظاهر أمرهم أن الأمور كلها مفوضة إليهم، وأن الخليفة قد أنزله في جميعها منزلته ولم يتحقق ذلك، فلذلك قال: إن في أخذ الجوائز منهم شيء يريد أن ذلك مكروه فتركها أحسن، ولو تحقق ذلك لم يكن لكراهة أخذ الجوائز منهم وجه، كما أنه لو تحقق أنه لم يؤذن لهم في إعطاء المال باجتهادهم لمن لم يعمل عليه عملا لم يكن لتسويغ أخذ الجوائز منهم وجه، فإذا كان المجبي حلالا وعدل في القسمة فاتفق أهل العلم على جواز أخذ الجوائز منه، وإذا كان المجبي حلالا ولم يعدل في القسمة فيه، فمنهم من أجاز الجوائز منهم..، وهم الأكثر، ومنهم من كرهه حتى يعدل في القسمة فيه، وإذا كان المجبي يشوبه حلال وحرام فمنهم من كره أخذ الجوائز منه وهم الأكثر، ومنهم من أجازه، وإذا كان المجبي حراما فمنهم من حرم أخذ الجوائز منه والأرزاق على عمل من الأعمال، روي هذا القول عن مالك، ومنهم من أجازه، ومنهم من كرهه، وإن كان الغالب عليه الحرام فله حكم الحرام، وإن كان الغالب عليه الحلال فله حكم الحلال، وفيه كراهة ضعيفة، وإن كان الخليفة يجبي الحلال والحرام، فمن أخذ مما يعلم أنه حلال فله ما ذكرناه من حكم المجبي الحلال، ومن أخذ ما يعلم أنه حرام فله ما ذكرناه من حكم المجبي الحرام، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق. .مسألة تضعان في ليلة فيختلط الصبيان: قال محمد بن رشد: لم يقل سحنون في هذه المسألة إنه يحكم فيها بالقافة كما قال في أول مسألة من نوازله من كتاب الاستلحاق في الرجل يسافر بامرأته فينزل على الرجل في قريته ومعه أم ولد له حامل وامرأة ضيفه حامل فتضعان في ليلة فيختلط الصبيان فلا يعرف كل واحد منهما ولده فيدعي كل واحد منهما صبيا منهما، يقول هذا ولدي، ويقول الآخر هذا ولدي، وكلاهما لا يدعي منهما صبيا بعينه لأنهما قد اختلطا ولا يعرفان إنه يدعي لهما القافة، فقيل إن ذلك اختلاف من قوله، ولا فرق بين المسألتين، وقيل: إن قوله في كتاب الاستلحاق مبين لقوله في هذه المسألة لأنه زاد فيها من وجوب الحكم بالقافة ما سكت عنه في هذه، وقيل وهو الأظهر: إنهما مسألتان مفترقتان حكم في تلك بالقافة؛ لأنه مجرد إثبات نسب كل واحد منهما من أبيه، ولم يحكم في هذه بالقافة؛ لأن ذلك يئول إلى القضاء برق إحداهن والحكم بها لمدعيها ملكا، وذلك ما لا يجوز إعمال قول القافة فيه، ألا ترى أنه لو ادعى رجل ولد أمة رجل فقال زوجتنيها فولدت هذا الولد مني وأنكر ذلك سيد الأمة وادعى أن الولد له ولدته من زنى لم يجز أن يحكم به لمدعيه لقول القافة، وهذا بين، والله أعلم. .مسألة شهادة القائف الواحد على ما يقول: قال محمد بن رشد: القياس على أصولهم أن يحكم بقول القائف الواحد وإن لم يكن عدلا؛ لأنه علم يؤديه وليس من طريق الشهادة كما يقبل قول النصراني الطبيب فيما يحتاج إلى معرفته من ناحية الطب كالعيوب والجراحات، فاشتراط ابن القاسم فيه العدالة استحسان، وقد روى ابن وهب عن مالك إجازة القضاء بقول الواحد منهم ولم يشترط في ذلك عدالة، ووجه قول سحنون ورواية ابن نافع عن مالك في أنه لا يجوز أن يقضي منهما إلا باثنين عدلين مراعاة للاختلاف، إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم بالقافة أصلا، وهو مذهب أبي حنيفة، إذ لا يصح عنده القطع من ناحية الشبه على أن الولد لمشبهه، وإنما هو دليل قد يخطئ ويصيب فلا يجب عنده أن يحكم بالولد لمن تقول القافة إنه من نطفته، ويجوز لمن يقع في قلبه مثل ذلك ولمن يعلم حقيقة الأمر فيه أن يسر به، وإن لم يكن مع ذلك وجوب حكم ولا قضى كما «فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ دخل مجزز المدلجي عليه فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» وهذا الحديث أصل عندنا في وجوب الحكم بقول القافة، والوجه فيه عند أبي حنيفة ما ذكرته، ولمالك في سماع أشهب من كتاب الاستلحاق أنه لا يقضى من القافة إلا بقول قائفين، فظاهره مثل رواية ابن نافع هذه إلا أنه علل ذلك بأن الناس قد دخلوا ولم يشترط في ذلك عدالة فدل ذلك من تعليله على ما ذكرنا من أن ذلك ليس على حكم الشهادة، وإنما استحب أن يكونا اثنين استظهارا في الحكم للمعنى الذي ذكره، فانظر في ذلك وتدبره، وبالله التوفيق. .مسألة دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ: قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القيام بالشهادة الذي أمر الله به حيث يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] و{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ينقسم على وجهين؛ أحدهما: أن يدعى ليشهد على الشهادة ويستحفظ إياها. والثاني: أن يدعى أن يشهد بما علمه استحفظ إياه أو لم يستحفظ. أما الوجه الأول وهو أن يدعى ليشهد ويستحفظ الشهادة فإن ذلك واجب وفرض على الجملة يحمله بعض الناس عن بعض كالجهاد والصلاة على الجنائز وما أشبه ذلك، فإذا كان الرجل في موضع ليس فيه من يحمل ذلك عنه تعين عليه الفرض في خاصته؛ لأن الله قال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] فإذا قيم بها فقد امتثل الأمر وسقط الفرض، إذ لا معنى لقيام من قام بها بعد ذلك. وأما الوجه الثاني وهو أن يدعى ليشهد بما علمه واستحفظ إياه فإن ذلك واجب عليه لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] فمن كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يكتمها ويلزمه إذا دعي إليها أن يقوم بها، وأما إن لم يدع إلى القيام بها فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها» وهذا فيه تفصيل قد مضى القول فيها مستوفى في رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يجب على كل من دعي إلى شهادة أن يجيب سواء دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمى شاهدا إلا بعد أن يكون عنده علم بالشهادة، وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد ولا داخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] إلا من هو شاهد، وهذا بين، وبالله التوفيق. .مسألة كيف يعدل الرجل عند القاضي: قال محمد بن رشد: قوله: إن الشاهد يقول في تعديل الشاهد هو عندي من أهل العدل والرضى أو هو عندي من أهل العدل ولا يزيد على ذلك صحيح، وإنما جازت شهادته بأن يقول: هو عندي من أهل العدل ولم يلزمه أن يقول هو من أهل العدل؛ لأن القطع على ذلك لا يصح، وإنما يشهد الشاهد بما يغلب على ظنه من عدالته بما ظهر إليه من أحواله، وهذا نحو قول أصبغ: لا أرى أن يقول الرجل في تعديل الرجل هو عدل، وليقل أراه عدلا، ولو قال: هو عدل ولم يقل: عندي كما قال في هذه الرواية ولا قال أراه عدلا كما قال أصبغ لجازت شهادته ولم تكن غموسا وإن كان ظاهر القطع بما لا يصح القطع عليه؛ لأن المعنى في ذلك عند الشاهد ما يغلب على ظنه من عدالته، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف الحاصل فيمن شهد لمستحق عرض من العروض أنه ما باع ولا وهب حسبما مضى القول فيه في رسم الأقضية لابن كنانة من سماع أشهب، واختار أن يقول المعدل في تعديل الشاهد هو عندي من أهل العدل والرضى فجمع بين اللفظين؛ لأن الله قال في موضع: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقال في موضع: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فإن اقتصر على أحذ اللفظين اكتفي به؛ لأن الله قد ذكر كل لفظ منهما على حدة فكان ذلك كافيا في صفة الشاهد الذي يجوز قبول شهادته؛ لأن من كان من أهل العدل فهو من أهل الرضى ومن كان من أهل الرضى فهو من أهل العدل، وبالله التوفيق. وقوله: أليس على القاضي أن يسأل الشهود المزكين هل يرضون بشهادته لهم وعليهم صحيح أن ذلك ليس عليه، بل الأظهر أن ذلك لا ينبغي له إذ قد يكونون عنده من أهل العدل والرضى ولا يرضى بشهادتهم عليه لعداوة بينه وبينهم، وبالله التوفيق.
|